الأدب الفرنسي في الوقت الحاضر
تأليف: دومينيك فيارت, برينو فيرسييه
مؤلفا هذا الكتاب هما دومينيك فيارت وبرينو فيرسييه. والأول هو أستاذ الأدب المعاصر في جامعة «ليل» بشمال فرنسا. وأما الثاني فهو أستاذ النقد الأدبي في جامعة السوربون الجديدة، باريس الثالثة.
وفي هذا الكتاب الكثيف والممتع يقدم المؤلفان صورة عامة عن حالة الأدب الفرنسي في ربع القرن الأخير: أي منذ عام 1980 وحتى اليوم. وينقسم الكتاب إلى مقدمة عامة وسبعة أجزاء وخاتمة. أما المقدمة العامة المطولة فتتحدث عن الحالة الراهنة للأدب الفرنسي. ويطرح المؤلفان هذا السؤال: هل نحن أمام عهد جديد للأدب يا ترى؟
بمعنى آخر: هل انتهى عهد الكبار من أمثال سارتر، وبارت، وأراغون، ورينيه شار، ومالرو، وعشرات غيرهم وحل محله عهد جديد لجيل آخر؟
ثم يتحدث الجزء الأول من الكتاب عن تجديد السيرة الذاتية في الأدب الفرنسي. ومعلوم أن آلان روب غرييه نشر سيرته الذاتية في هذه الفترة. وكذلك فعل ميشيل بوتور، والفيلسوف جاك دريدا، والناقد سيرج دوبروفسكي وآخرون عديدون. ومعلوم أيضا أن السيرة الذاتية تمثل نوعا أدبيا جديدا في فرنسا منذ أن كان جان جاك روسو قد دشنها عندما كتب اعترافاته الشهيرة.
ومن معطف روسو خرج كل الأدباء الكبار الذين كتبوا سيرتهم الذاتية كأندريه جيد مثلا أو حتى سارتر في كتابه الشهير: الكلمات. ولكن أندريه مالرو رفض كتابة سيرته الذاتية لأنه كان يعتبر ذلك عملا فضائحيا ولا يليق بالرجل الذي يحترم نفسه!
فلماذا أكتب سيرتي الذاتية وأكشف للآخرين أسراري وحوادث حياتي الشخصية بما فيها التافهة والصغيرة؟ ألا يجدر بي أن أضيع وقتي في شيء آخر أكثر قيمة؟
ثم هناك سؤال آخر يطرح نفسه: هل يمكن أن أقول الحقيقة إذا ما كتبت سيرتي الذاتية؟ ألن أتعرض لإغراء تزوير الحقائق وعرض الأمور بشكل زاهر ولمصلحتي الشخصية؟ من المعلوم أن جان جاك روسو تحدث عن عيوبه ونواقصه دون أي خجل في كتاب «الاعترافات». ومع ذلك فإن بعضهم اتهمه بإخفاء بعض الأشياء وإبراز بعضها الآخر!
وبالتالي فإذا كان روسو لم يقل كل الحقيقة فما بالك بنا نحن؟ وربما لهذا السبب فإن رولان بارت عندما كتب مذكراته نبه القارئ منذ البداية إلى ما يلي: اقرأ هذا الكتاب وكأنه مكتوب من قبل شخصية روائية أو خيالية. ولكننا نعرف أنه تحدث عن حياته الشخصية فيه وعرفنا على بعض أسراره. ولكن هل قال كل أسراره؟
بالطبع لا. ولا يوجد كاتب في العالم يستطيع أن يقول لنا كل شيء عن نفسه. ولهذا السبب ينبغي أن نأخذ كتب السيرة الذاتية على علاتها أو نواقصها: أي باحتياط شديد. فلا يوجد كاتب واحد في العالم يحب أن يشوه نفسه مهما كان صريحا أو صادقا. ولكنّ هناك سيراً ذاتية أصدق وأقرب إلى الحقيقة من سير أخرى.
وجان جاك روسو كان صادقا إلى درجة الفضيحة حتى ولو لم يقل كل شيء. وكذلك أندريه جيد وسارتر وإن بدرجة أقل ونجاح لا يرتفع إلى مستوى نجاح روسو.أما الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث عن علاقة أدباء فرنسا بالتاريخ وبخاصة تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية. نقول ذلك وبخاصة أن الأدباء الكبار انخرطوا في هذه الحرب سلبا أو إيجابا.
فبعضهم كان في جهة المقاومة وبعضهم كان في جهة المهادنة مع المحتل أو حتى التعاون معه. وقد خلّد بول ايلوار وأراغون الحرب العالمية الثانية بقصائد رائعةأما الجزء الثالث من الكتاب فمكرس لدراسة العلاقة بين الكاتب والعالم أو الكاتب والواقع بكل مشكلاته المحسوسة. وهنا نلاحظ أن الجيل الحالي يختلف عن الجيل السابق: أي جيل سارتر وجماعته.
فسارتر هو الذي اخترع مصطلح «الأدب الملتزم» وأشاعه في الثقافة الفرنسية. ومعلوم أنه انضم إلى المعسكر الاشتراكي الشيوعي المضاد للمعسكر الأميركي الرأسمالي طيلة الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أنه لم يكن شيوعيا إلا أنه اعتبر نفسه رفيق درب للحزب الشيوعي وحاول إقامة المصالحة بين الوجودية والماركسية. ولكن الجيل الحالي لا يميل إلى الالتزام في الأدب مثله لسبب أساسي هو أنه يعتبر أن سارتر قد أخطأ في انخراطه السياسي ودافع عن أنظمة توتاليتارية استبدادية. وخان بالتالي معسكر الحرية والديمقراطية.
والدليل على ذلك أن المعسكر السوفييتي هو الذي انهار وليس المعسكر الرأسمالي. ويقال :ان سارتر تأسف في أواخر حياته لأنه دافع عن الشيوعية ولكن بعد فوات الأوان. ولكن هل تأسف لأنه دافع عن الطبقات الشعبية والعدالة الاجتماعية وحارب الرأسمالية؟ بالطبع لا.
ولكن الكتاب المعاصرين من الفرنسيين الذين جاؤوا بعده لا يريدون أن يقعوا في الخطأ نفسه. ففي رأيهم أن الأدب غير الملتزم أفضل من الأدب الملتزم بالمعنى السياسي للكلمة. فالدعاية السياسية أو الديماغوغية تقضي على الإبداع الأدبي وتكون دائما على حساب القيم الفنية والجمالية. بالطبع لا يوجد أدب عظيم إلا ويطرح أسئلة جوهرية على الواقع والوجود.
ولكن يفضل أن يكون التزامه بقضايا الإنسان وهمومه ضمنيا لا صريحا ولا علنيا ولا دعائيا. فالدعاية المباشرة تقتل الأدب.
أما الجزء الرابع من الكتاب فمكرس لدراسة العلاقة بين الأدب والمشكلات الحالية للمجتمع الفرنسي. هذا في حين أن الجزء الخامس مكرس كله لدراسة الرواية الفرنسية، أما الجزء السادس فمكرس لدراسة حضور الشعر في فرنسا المعاصرة. وفي الفصل السابع والأخير يتحدث المؤلفان عن الكتابة المسرحية. ثم تجيء الخاتمة في النهاية لكي تغلق الكتاب.
فيما يخص مكانة الشعر في فرنسا أو حضوره يقول الكتاب تحت عنوان: كبار المعاصرين ما معناه: إن الشعر الفرنسي في القرن العشرين كان من الغنى بمكان. فهذا القرن شهد ظهور شعراء كبار من أمثال رينيه شار، هنري ميشو، فرانسيس بونج، أراغون، ايلوار. واليوم يسيطر على الشعر الفرنسي شاعران كبيران هما:
ميشيل ديغي وإيف بونفوا. وميزة هذين الشاعرين هي أنهما مفكران بقدر ما هما شاعران. فكلاهما ألف الكتب التنظيرية عن الشعر والحياة والقضايا الفلسفية. ومن أجمل الكتب وأعمقها كتاب إيف بونفوا: مقابلات عن الشعر، وفيه يقول بأن كل أعماله ما هي إلا بحث طويل وصعب عن المكان الحقيقي للشعر.
وهو يقترب بذلك من نظريات هيدغر وموريس بلانشو عن جوهر الشعر. ومعلوم أن هيدغر نشر مقالة هامة جدا بعنوان: هولدرلين وجوهر الشعر. وهي محتواة في كتابه: مقاربات هولدرلين الصادر عام 1962.
فيما يقول بأن هدف الشعر هو تأسيس الكينونة بواسطة الكلام. ويرى الفيلسوف الألماني الكبير أن الشعر وحده قادر على مقاربة البدايات أو البراءات الأصلية التي لا تستطيع اللغة المنطقية أو العقلانية أو الفلسفية أن تصل إليها. وبالتالي فالشعر مكمل للفلسفة، والفلسفة مكملة للشعر. وكلاهما يعبر عن الوجود بلغة مختلفة.
ولا ريب في أن إيف بونوا قد اطلع على تنظيرات هيدغر وسواه وشكل نظريته عن الشعر من خلال هذه القراءات المعمقة ثم من خلال تجاربه الحياتية أيضا. فالثقافة لا تجيء فقط من بطون الكتب وإنما من محن الحياة ومعاناتها أيضا.
وفي الختام يقول المؤلفان ما معناه: لم نهدف من هذا الكتاب إلى التحدث عن كل أدباء فرنسا في الفترة المعاصرة. فهذا شيء يتطلب عدة كتب لا كتابا واحدا. نقول ذلك على الرغم من أننا تحدثنا عن الكثيرين سواء في مجال الشعر والرواية أو المسرح أو المقالة الأدبية أو المقالة النقدية، الخ.
ورأينا أن أول ظاهرة تميز الشعر الفرنسي منذ عام 1980 هي حصول طفرة نوعية. فقد تغيرت الأشكال الأدبية أو تجددت. فالرواية مثلا خرجت على قوالب رواية الخمسينات المدعوة بالرواية الجديدة وعادت إلى أشكال أكثر كلاسيكية ولم تعد تأنف من رواية حكاية ما لكي تمتع القارئ أو تشوقه.
نقول ذلك ونحن نعلم أن الرواية الجديدة على طريقة آلان روب غرييه وجماعته كانت بمثابة صرعة أدبية تمخضت عن فقاعات في معظم الأحيان. كانت عبارة عن رواية تجريدية لا قالب لها ولا مضمون وإنما هي عبارة عن تجريب شكلاني فارغ في نهاية المطاف وعدمي. وهناك ظاهرة أخرى تلفت الانتباه في هذه الفترة التي درسناها، ألا وهي حيوية الأدب الفرنسي وارتباطه الوثيق بالواقع ومشكلات العالم.
* الكتاب: الأدب الفرنسي في الوقت الحاضر
* تأليف: دومينيك فيارت، برينو فيرسييه
* الناشر: بورداس ـ باريس 2006
* الصفحات: 512 صفحة من القطع الكبير
La littérature française au présent
Dominique Viart, Bruno Vercier
Bordas- Paris 2006
p. 512