بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
لماذا عبر القرآن عن بعض المصارف بـ "اللام" وبعضها بـ "في"
وذلك في قوله تعالى:إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}
فقد اشتملت آية الزكاة عددا من وجوه الإعجاز القرآني العظيم، ذكر بعضا منها فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله فقال :
اشتملت آية مصارف الصدقات على أصناف ثمانية، الأربعة الأولى منها هم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم- وهم الأصناف الذين تعطى لهم الزكاة- وبقى من أصناف المستحقين أربعة:
1- في الرقاب وهو المصرف الخامس .
2- والغارمين وهو المصرف السادس .
3- وفى سبيل الله وهو المصرف السابع .
4- وابن السبيل وهو المصرف الثامن والأخير.
وقد غايرت الآيات التي حصرت مصارف الزكاة في الأصناف الثمانية بين المصارف الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة.. فالأولون جعلت الصدقات لهم: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) (التوبة: 60).
والآخرون جعلت الصدقات فيهم: (وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل) (التوبة: 60). فما السر في هذه المغايرة؟ ولماذا عبر عن استحقاق الأولين للصدقة بـ "اللام" التي هي في الأصل للتمليك، وعبر عن استحقاق هؤلاء لها بحرف "في" التي هي للظرفية؟.
إن القرآن لا يضع حرفًا بدل حرف اعتباطًا، ولا يغاير بين التعبيرات جزافًا، بل لحكمة ينبه عليها بكلامه المعجز. وما يعقلها إلا العالمون. فما هذه الحكمة؟.
لقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأن العدول عن "اللام" إلى "في" في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الزكاة من الأربعة الأولى؛ لأن "في" للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبًا (الكشاف: 2/45، 46 ).
وعقب ابن المنير في "الانتصاف" على كلام الزمخشري بالتنبيه على نكتة أدق وأعمق: قال: "وثم سر آخر هو أظهر وأقرب. وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكًا، فكان دخول اللام لائقًا بهم. وأما الأربعة الأواخر، فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم. فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفًا إلى أيديهم، حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم.. وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به.
وكذلك الغارمون، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصًا لذممهم لا لهم، وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك.
وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجًا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيهًا على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعًا. وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب.
وأقول: إن ما يصرف لابن السبيل ليس تمليكًا له. وإنما هو مصروف في مصلحته المتعلقة بسفره إلى بلده، وما يحتاجه إلى بلوغ غرضه، ولهذا يمكن صرفه إلى جهة النقل التي ستوصله إلى وطنه كشركة الملاحة، أو الطيران أو السكة الحديدية مثلا.
وكذلك ذكر الفخر الرازي: أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الأوائل بلام التمليك وهو قوله: (إنما الصدقات للفقراء). ولما ذكر الرقاب أبدل حرف "اللام" بحرف "في" فقال: (وفى الرقاب). فلا بد لهذا الفرق من فائدة. وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات. حتى يتصرفوا فيها كما شاءوا، وأما "في الرقاب" فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق، ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف في ذلك النصيب كيف شاءوا، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم.
وكذلك القول في الغارمين، يصرف المال في قضاء ديونهم، وفى الغزاة يصرف المال إلى ما يحتاجون إليه في الغزو. وابن السبيل كذلك.
والحاصل أن الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفى الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا الزكاة" (التفسير الكبير للرازي)
وتبعًا لهذه المغايرة في الآية بين الأصناف المستحقين قسم الشيخ محمد رشيد رضا ، وتبعه الشيخ شلتوت المصارف إلى قسمين: أشخاص ومصالح، فالأشخاص تشمل الأربعة الأولى مع الغارمين، وابن السبيل.
والمصالح تشمل مصرفين: في الرقاب وفى سبيل الله وهما المصرفان اللذان دخلت عليهما "في" مباشرة. ولم يعتبر الغارمون وابن السبيل من جملة المصالح بالعطف على ما جاورها. بل جعلا الوصفين معطوفين على الأصناف الأولى المجرورة باللام، وذلك لاشتراك الأصناف الستة في أنهم أشخاص ذوو أوصاف، والفقراء أشخاص اتصفوا بالفقر، والغارمون أشخاص اتصفوا بالغرم... إلخ. ولكن قد يعكر على هذا أن عطف كل صنف على جاره القريب أولى من عطفه على البعيد.
والأليق ببلاغة القرآن أن تكون الأصناف التي يعطى "لها" الزكاة متجاورة متعاظمة، والجهات التي تصرف "فيها" الزكاة متجاورة أيضًا، كما هو اختيار الزمخشري وابن المنير والرازي وغيرهم.
وما يؤيد ما ذكره الرازي في الفرق بين الأربعة الأولى والأربعة الأخر، ما ذكره ابن قدامه بقوله:
أربعة أصناف يأخذون أخذًا مستقرًا ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم: الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة، فمتى أخذوها ملكوها ملكًا دائمًا مستقرًا، لا يجب عليهم ردها بحال.
وأربعة منهم -وهم الغارمون وفى الرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل- فإنهم يأخذون أخذًا مراعى: فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها- وإلا استرجع منهم.
"والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها: أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم الزكاة، والأولون حصل المقصود بأخذهم -وهو غنى الفقراء والمساكين، وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين- وإن قضى هؤلاء (يعنى الأربعة الأخيرين) حاجتهم وفضل معهم فضل ردوا الفضل إلا الغازي، فإن ما فضل له بعد غزوه فهو له.." أ هـ.
وهذا في غير الأشياء التي تبقى وتستمر زمنًا كالسلاح والخيل، فينبغي أن ترد بعد الغزو إلى بيت المال، والفرق الذي ذكره الشيخ ابن قدامة هنا صحيح، وكان عليه أن يؤيده بتفرقة القرآن بين الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة بمغايرة التعبير بين أولئك وهؤلاء.
والله أعلم .