عبد الباري عطوان
التفجيرات التي تستهدف اهدافا مدنية او عسكرية ليست جديدة على العراق، فمنذ الاحتلال الامريكي قبل ست سنوات شهدت البلاد انواعا شتى منها، ولكن سلسلة التفجيرات التي وقعت بالامس واستهدفت وزارات حكومية حساسة واهدافا داخل المنطقة الخضراء، واوقعت اكثر من مئة قتيل وخمسمئة جريح، تشكل علامة فارقة، وتؤسس لمرحلة جديدة ربما تكون اكثر دموية.
انه اختراق امني كبير يطرح العديد من علامات الاستفهام حول قدرات قوات الامن العراقية في اداء واجباتها في حفظ الامن، رغم الاموال الضخمة التي انفقت، من قبل الامريكيين والحكومة في آن على تدريبها وتسليحها، فالاماكن المستهدفة لهذه التفجيرات تعتبر الاكثر تحصينا وحراسة في البلاد باسرها.
الرئيس العراقي جلال الطالباني اتهم 'الصداميين' وتنظيم 'القاعدة' بالمسؤولية عن هذه التفجيرات، وربما يكون هناك دور لهؤلاء في هذه التفجيرات او غيرها، ولكن من المؤكد ان حجمها وتنظيمها، وتزامنها كلها مؤشرات توحي بان هناك جهات قد تكون من المتحالفة مع النظام هي الاكثر ترجيحا في هذا الصدد.
فالسيد نوري المالكي رئيس الوزراء اصيب بحالة من الثقة الزائدة بالنفس بعد فوز انصاره بالاغلبية في بعض المناطق جنوب العراق في الانتخابات البلدية الاخيرة، لدرجة ادارة الظهر لحلفائه في الائتلاف الشيعي الذي اوصله الى رئاسة الوزراء، والتفكير بتشكيل تحالف جديد يكون نواته حزب 'الدعوة' الذي يتزعمه حاليا لخوض الانتخابات التشريعية في كانون الثاني (يناير) المقبل.
ومن غير المستبعد ان يكون هذا الطلاق السياسي مع حلفاء الامس قد تحول الى صراع دموي جاءت التفجيرات الاخيرة احد عناوينه الابرز، لان قوات الامن العراقية تتكون في غالبيتها من عناصر كانت مجندة في الميليشيات الطائفية التابعة للائتلاف الحاكم في بغداد.
فأن تصل شاحنة مفخخة الى مقر وزارة الخارجية الواقعة على حافة المنطقة الخضراء، وان تستهدف تفجيرات اخرى وزارات الصحة والتعليم والمحافظة، وفندق الرشيد الذي ينزل فيه كبار الزوار الاجانب، فهذا قد يعني ليس فقط انهيار قوات الامن، وانما تواطؤ بعض عناصرها مع بعض الجهات التي تقف خلف هذه التفجيرات.
' ' '
الانجاز الابرز الذي حققته حكومة المالكي منذ وصولها الى السلطة يتمثل في تحقيق بعض التقدم 'المؤقت' على صعيد ضبط الامن، خاصة في العاصمة بغداد، ولعبت القوات الامريكية والخطط الامنية المتبعة، دورا كبيرا في هذا المضمار، ولكن الان، وبعد انسحاب القوات الامريكية الى خارج المدن، وايكال المهام الامنية الى القوات العراقية، تبخر هذا الانجاز بسرعة قياسية.
اعداء السيد المالكي كثر، ولكنهم تزايدوا عددا وخطورة في الفترة الاخيرة، حيث بدأوا يوجهون اليه الضربات في الخاصرة الامنية الموجعة لهز صورته، واظهار ضعفه، وايصال رسالة هامة اليه بانه لا يستطيع ان يحكم وحده، وبدون غطاء سياسي موسع عموده الفقري حلفاء الامس.
فمن المفارقة ان الخلافات بين أهل الحكم وصلت الى مستويات متدنية غير مسبوقة، حيث لم تقتصر فقط على تبادل الاتهامات والشتائم، خاصة بين السيد المالكي وخصمه ومنافسه السيد عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية، وانما امتدت الى السطو المسلح على المصارف الرسمية في البلاد. وكان لافتا اعتقال بعض افراد حراسة السيد عبد المهدي بتهمة السطو على مصرف في وضح النهار بطريقة تذكرنا بالافلام البوليسية الامريكية وجرائم عصابات 'المافيا'.
فاذا كان اهل الحكم يسطون على البنوك، بعد ان نهبوا المال العام، وسرقوا عشرات المليارات من عوائد النفط، فماذا تبقى للعراقيين البسطاء الذين يعانون من الفقر والجوع وانعدام الأمان. وهم الذين وُعدوا بأن 'العراق الجديد' سيصبح نموذجاً في الأمان والشفافية والرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
قوة السيد المالكي تتمثل في ضعفه، وانعدام البدائل، وفشل المشروع الامريكي في العراق، الأمر الذي دفع حلفاءه في واشنطن ولندن للابقاء عليه، والتعامل مع نهجه كأمر واقع على أمل ان تأتي الانتخابات المقبلة بتحالفات جديدة، او قيادات جديدة، ولكن هذا الأمل يبدو في غير مكانه.
الشعب العراقي هو الضحية الأكبر من هذا الانهيار الأمني الذي قد يرى البعض انه بداية النهاية لما يسمى بالعراق الجديد، لكن لا يمكن التقليل من حجم الخسارة للسيد المالكي والمجموعة المحيطة به، وللقوى الداخلية والخارجية، التي راهنت عليه.
لا شك ان الفشل الأمني هو الشعرة التي قصمت ظهره، وربما يجعله يراجع حساباته، والتمعن في اخطائه الكارثية، وأبرزها عدم تحقيق المصالحة الوطنية، واستيعاب قوات الصحوات التي دربها ومولها الامريكان لقتال تنظيم 'القاعدة' لأسباب طائفية محضة، ولكن الوقت ربما يكون متأخراً لمثل هذه المراجعات.
' ' '
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام هو عما ستفعله الولايات المتحدة كرد على هذه التطورات الدموية الخطيرة، فهل ستعيد قواتها الى بغداد، أم ستصر على بقائها خارجها على امل ان يتحسن الوضع؟
اعادة القوات الامريكية الى بغداد لحماية المنطقة الخضراء مجدداً، قد تعني المزيد من الخسائر البشرية في صفوفها، في وقت تحقق قواتها الأخرى في افغانستان الفشل تلو الآخر على الصعد كافة العسكرية والسياسية، فحامد كرزاي رئيس افغانستان المرشح الأبرز للفوز في انتخابات اليوم الرئاسية غارق في الفساد هو واشقاؤه وحركة 'طالبان' وصلت الى كابول وقصفت القصر الرئاسي في وضح النهار.
ادارة اوباما سحبت قواتها من العراق لتقليص خسائرها البشرية (4250 قتيلاً) والمادية (13 مليار دولار شهرياً) ومن غير المتوقع ان تعود مجدداً الى ازقة العاصمة العراقية، خاصة في ظل الصراع الداخلي على السلطة والنفوذ بين اجنحة الائتلاف الحاكم، مما يعني ان المنطقة الخضراء قد تصبح اكثر احمراراً في الأيام المقبلة خاصة مع قدوم شهر رمضان المبارك.
العراقيون تعرضوا الى اكبر خديعـــة في التـــاريخ الحديــــث، نصــــفها من المحافظين الجــدد ورئيسهم في واشنطن، والنصف الثاني مــن ابناء جـــلدتهم حكام العراق الجدد.. خديعة كلفــــتهم اكثر من مليون شهيد، وثلاثة ملايين جريح، وجروحا طائفية من الصعب البراء منها في المستقبل المنظور.
اللافت انهم لا يتحركون بالقدر الكافي لرفض هذا الوضع، ولا نعتقد ان قوة خارجية ستأتي لنجدتهم للخلاص من الوضع المزري الحالي، بعد ان دفع الامريكان ثمناً باهظاً لاحتلالهم، وما زالوا يدفعون.