الإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها، إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع، قال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها
حتى يقول رجال إن بي حمقا
أخشى جواب سفيهٍ لا حياء له
فسلٍ يظنُّ أناسٌ أنه صدقا
وقال أبو العتاهية:
والصمت للمرء الحليم وقاية
ينفي بها عن عرضه ما يكره
فكل السفيه إلى السفاهة وانتصف
بالحلم أو بالصمت ممن يسفه
والعرب تقول: (إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر).
وروي أن رجلاً نال من عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - فلم يجبه، فقيل له: ما يمنعك منه؟.. قال: التقي ملجم.
هذا وإن من أعظم ما يعين على الإعراض عن الجاهلين زيادة على ما مضى ما يلي:
1- الترفع عن السباب، فذلك من شرف النفس، وعلو الهمة، كما قالت الحكماء: (شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم).
قال الأصمعي: (بلغني أن رجلاً قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعن عشراً. فقال الآخر: لكنك إن قلت عشراً لم تسمع واحدةً). وشتم رجل الحسن، وأربى عليه، فقال له الحسن: (أما أنت فما أبقيت شيئاً، وما يعلم الله أكثر).
يقول العلامة محمد كرد علي - رحمه الله -: (وإذا لاحظ الهجاؤون أن هجاءهم مما تنخلع له قلوب المهجوين زادوا وأفرطوا، وإذا أيقنوا أن صاحب النفس العظيمة لا يأبه كثيراً لما يقال فيه يحاذرون صرف أوقاتهم فيما لايجدي عليهم.
وقد رأينا العلي المنزلة النزية في ذاته لا يعبأ بثرثرة الثرثارين مدحاً كان أم قدحاً، ورأينا هذا الضرب من الأقوال خف الاهتمام به في عهدنا، لأن الناس تعلموا، والمتعلم يخجل أن يصفق للباطل، وأن يهرب من الحق).
2- استحضار كون الإساءة دليلاً على رفعة شأن المساء إليه، وشرفه، فذلك مما يهون ما يلقى من سب وتجريح.
....... ومازالت الأشراف تهجى وتمدح
وقد جرى في قريض أبي الطيب المتنبي أن من دلائل كمال الرجال رمي الناقص له بسباب، حين يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
ووجه هذا: أن الوضيع لا تلتفت همته إلى من كان واقفاً في صفة من الأسافل، فتحدثه بأن بلغ في أعراضهم بالمذمة، لأنه غني في نشر مثالبهم بما تلبسوا به من الفضائح، حتى إذا ألقى نحوهم بسبة رماها على شفته من غير حرص وشدة اهتمام بالتحدث بها.
وإنما تتوجه همته بمجامعها إلى الرجل الكامل، حيث يقصد إنزاله في معتقد الجمهور إلى مدرجته، أو ما هو أسفل منها.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله -:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة
وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي على عزيزة
لمكنتها من كل نذل تحاربه
وقال آخر:
ولست مشاتماً أحداً لأني
رأيت الشتم من عي الرجال
إذا جعل اللئيم أباه نصباً
لشاتمه فديت أبي بمالي
3- الاستهانة بالمسيء، فذلك من ضروب العزة والأنفة، ومن مستحسن الكبر والإعجاب، ومن ذلك قول بعض الزعماء في شعره:
أو كلما طن الذباب طردته
إن الذباب إذاً على كريم
وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال الساب: والله ما منع الأحنف من جوابي إلا هواني عليه.
وفي مثله يقول الشاعر:
نجا بك لؤمك منجى الذباب
حمته مقاذيره أن ينالا
وشتم رجل الأحنف، وجعل يتبعه حتى بلغ حيه، فقال الأحنف: يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء فهاته، وانصرف، لا يسمعك بعض سفهائنا، فتلقى ما تكره.
وقيل للشعبي: فلان يتنقصك ويشتمك، فتمثل الشعبي بقول كثير:
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه، فقال: إياك أعني، فقال له: وعنك أعرض.
4- أن يستحضر أن مجاراة السفهاء شر وبلاء، فهناك من إذا ابتلي بسفيه ساقط، لا خلاق له، ولا مروءة فيه.
- أخذ يجاريه في سفهه وقيله وقاله، مما يجعله عرضة لسماع مالا يرضيه من ساقط القول ومرذوله، فيصبح بذلك مساوياً للسفيه، إذ نزل إليه، وانحط إلى رتبته.
إذا جاريت ذا خلق دنيئاً
فأنت ومن تجاريه سواء
قال الأحنف بن قيس: (من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظٍ تجرعته مخافة ما هو أشد منه).
5- أن يستحضر الإنسان أنه بالإعراض عن الجاهلين يكرم نفسه بذلك، ويكرم قرابة السفيه الأبرياء الأعزاء، لأنهم لا ذنب لهم، ولهذا قيل: (لأجل عين تكرم ألف عين).
ويقول زهير:
وذي خطلٍ في القول يحسب أنه
مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبات له حلمي وأكرمت غيره
وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وقد اختلف الشراح في قوله: (وأكرمت غيره) فقال بعضهم: معناه أكرمت نفسي بالإعراض عنه، وقال بعضهم: أكرمت أهله، وأقاربه.
وقد يظن ظان أن الإعراض عن الجاهل والإغضاء عن إساءته مع القدرة عليه - موجب للذلة، والمهانة، ونه قد يجر إلى تطاول السفهاء.
وهذا خطأ، ذلك أن العفو والحلم لا يشتبه بالذلة بحال، فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب الكرامة.
أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه، حيث يزيده الإغضاء في أعين الناس رفعة ومكانة.
سياسة الحلم لا بطش يكدرها
فهو المهيب ولا تخشى بوادره
فالعفو إسقاط حقك جوداً، وكرماً، وإحساناً مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك، رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق.
بخلاف الذل، فإن صاحبه يترك الانتقام عجزاً، وخوفاً، ومهانة نفس، فهذا غير محمود، بل لعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه، لأن من الناس من بلغت به الرقاعة واللؤم أن يفسر الإكرام والإعضاء بالضعف، وعليه يحمل قول أبي الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقول الشريف الرضي:
في الناس إن فتشتهم
من لايعزك أو تذله
فاترك مجاملة اللئيم
فإن فيها العجز كله
ومعنى قوله: (أو تذله): إلا أن تذله، كما في الشاهد النحوي:
وكنت إذا غمزت قناة قوم
كسرت كعوبها أو تستقيما
أي: إلا أن تستقيما.
وهذا راجع إلى حكمة الإنسان، وتقديره الأمور، وتدبره للعواقب، فيعرف متى يأخذ بالحزم، ومتى يأخذ بالحلم.