عندما كتب لامارتين "البحيرة"، كانت حبيبته جولي لا تزال على قيد الحياة، وإنّما أجبرها مرضها القاتل على ملازمة باريس. كان الشاعر إذًا وحيدا، في مكان لقائهما المفضّل، وكان مشهد "بحيرة البورجيه" يبعث في نفسه شعورا بالحنين، وكذلك صورا من ذكريات سعادته المهدّدة
*
هكذا، يُلقى بنا دوما نحو سواحل جديدة،
وفي الليل الأزليّ نُؤخذ بدون رجعة،
فهل بمقدورنا يوما، على سطح محيط الدهور
إلقاء المرساة ولو ليوم؟
.
ألا يا بحيرة! ها هو الحول قد دار
وعند الأمواج الحبيبة التيّ كانت من جديد ستراها،
أُنظري! ها أنا اليوم جئتُ وحيدا، لأجلس على تلك الصّخرة
الّتي طالما رأيتِها جالسة عليها!
.
كنتِ تهدرين هكذا تحت هذي الصخور الغائرة؛
هكذا كنتِ تتحطّمين على جُنوبها الممزّقة؛
هكذا كانت الريح تلقي بزبد أمواجك
على ساقيها المحبوبتين.
.
هل تذكرين ذات مساء؟ كان قاربنا يجري بصمت؛
ولم يكن يصلنا من هناك.. من بعيد.. فوق الموج وتحت السماوات،
غير صخب المجدّفين، وهم يضربون بإيقاع،
أمواجك المتناغمة
.
ومن الساحل المفتون، علت فجأة بالأصداء
نَبَرات، لا عهد للأرض بها
فأنصت الموج، ومن الصوت الحبيب
تناثرت الكلمات:
.
أيا دهر، رويدك! وأنتنّ، أيّتها الساعات الخليلة
قفن!
لكي ننعم بأجمل أيّامنا
والنّعيم محكوم دوما بالزّوال!
.
كم من البؤساء في هذي الأرض يستجدونك
أطلق عنانك من أجلهم؛
خذ مع أيّامهم مآسيهم التي باتت تنهشهم؛
وانسَ السعداء
.
لكن، عبثا أسأل، من الوقت المزيد
يفلت الزمن منّي.. يفرّ؛
أقول لهذه اللّيلة: "تمهّلي!"؛ والفجر
سوف يبدّد الدّجى.
.
فلنعشق إذًا! فلنعشق! وبالسّاعة الهاربة،
هيّا بنا ننعم!
ليس للإنسان مرفأ، ولا للزّمان ساحل؛
فعجلة الزمان تدور ونحن نمضي!
.
ألا أيّها الدهر الحاسد، هل لساعات النشوة،
عندما يسقينا الحب السعادةَ بدون حساب،
أن تَطيرَ بعيدا عنّا، بسرعةِ
أيّام الشّقاء؟
.
ماذا! ألن يكون بمقدورنا أن نستبقي منها الأثر؟
ماذا! ولّت إلى الأبد؟ ماذا! ضاعت كلّ تلك السّاعات؟
هذا الدهر الّذي أوجدها، هذا الدّهر الّذي يمحيها،
أفَلن يعيدها لنا من جديد؟
.
أيّها الأزل، أيّها العدم، أيّها الماضي، أيّتها اللّجج السّحيقة،
ماذا ستفعلون بالأيّام التي قد ابتلعتُم؟
تكلّموا! هل ستعيدون لنا تلك النّشَوَات الكبرى
الّتي قد خطفتم؟
.
أيتها البحيرة! أيّتها الصّخور الصمّاء! أيّتها الكهوف! أيّتها الغابات الحالكات!
أنتنّ يا من يرعاكنّ الزمان.. بل قد يبعث فيكنّ الشباب،
احفظن من هذي اللّيلة.. احفظي أيّتها الطبيعة الغنّاء،
على الأقلّ، الذكرى!
.
لِتكن في سكونكِ، لِتكن في عواصفكِ،
أيّتها البحيرة الجميلة! وفي منظر تلاّتك الضاحكات،
وفي صنوبركِ الدَّجِيّ، وفي صخورك المتوحّشات،
المعلّقات فوق مياهك!
.
لتكن في هبّات نسماتك المرتعشة،
في لغط ضفافكِ وهي تردّده بالأصداء،
في ذاك النّجم، الفضيّ جبينه، ينشر ضياءه على سطحك
بلألئه الرّخو!
.
ولتقلِ الريح المتأوّهة، وليقل القصب المتنهّد،
وليقل شذى أريجكِ،
وليقل كلّ ما نسمع، وكلّ ما نرى، وكلّ ما نتنفّس،
ليقل كلّ الوجود: " لقد أحبّا!"
*
ترجمة سعيد محمد الجندوبي
**
ترجمة أخرى:
**
"عندما كان الشاعر الفرنسي الرومانسي لامرتين يستجمُّ في بحيرة (بورجيه) المعروفة بمياهها المعدنية خارج باريس لمعالجة مرض ألـمَّ به عام 1816، تعرف على فتاة جميلة اسمها جولييت جاءت للغرض ذاته، فكانت علاقة بينهما. وبعد انتهاء مدة الاستجمام، ذهب كُـلُّ منهما إل
***
وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ
بنا السفينة نأيـاً عـنْ مراسيهـا
في ظلمـةٍ طوّقتـنا غيرِ زائـلـةٍ
فلا صباحٌ يُـرَجّـى من حـواشيها
يجري بها البحر قُدْمـاً لا رجوعَ لها
ولا استراحةَ يوم راح يُسديهـا
تمرّ حيرى بشُطآنٍ بلا عدد
لكنهّا لا ترى مرفـا فيُـؤويهـا
***
أيا بحيـرةُ هلاّ تنظرين إلى
عـَوْدي وحيـداً وذكرى منْ لياليها
من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية
أعلـّل النفسَ لا شيءٌ يُسلّيـهـا
كانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً
والموج يرقص مختـالاً حوالِِـيها
ويقذف الرّغوةَ النّعسى على قَدمَـيْ
جوليـا حُـنُـوّاً فتشدو في أغانيها
والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها
والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيهـا ؟
***
تذكـّري ليلة والأنسُ يغمـرُنا
ولا نرى غيرَ دنيا الحبِّ نَرويهـا
جرى بنا القاربُ السّهمان في مرح
تحت السّماء وفوق الماء ساريـها
وكلّ ما حولَـنا صمتُ ولا صَخَبٌ
إلاّ المجـاديفَ تشدو في مساعيـها
لكنّ صـوتاً له سحـرٌ وهيمـنـة
أصغتْ له النفسُ فانزاحتْ غـواشيـها:
***
يا أرضُ رفقاً بنـا لا تُسرِعي أبداً
وطَـوِّلـي ليلـةً رقَّتْ معـانـيها
وأنتِ، أيتها الساعات، لا تَـثِـبـي
دعي الصّبابةَ ترعى مـَنْ يُـداريـهـا
وخلـيانا نعُـبُّ الحبَّ في رغَـدٍ
وأسرعا معْ كئيب النفس داميـهـا
وقصِّـرا ليلـةً طالت على نَـكِـدٍ
مُسهَّـدٍ راح بالأشجان يقضيـهـا
***
لم يسمعِ الدهرُ صوتَ الحبِّ عن عَـمَدٍ
إذ يكره الحبَّ والأزهـارُ يُـذويـها
فالصّبح قد هَـتَـكَ الليلَ البهـيَّ بلا
عطفٍ ففـارقتْ الأفـراحُ راعيـها
بحرُ الزمان ضنينٌ كلـّه ضِغَنٌ
يمزّق العمـرَ والأيـّامُ يَطـويـها
***
إنَّ الزمان ليجري في تدفّـقِـهِ
وإنَّ أمـواجَـه لا رحمةٌ فيـها
فلنغتنمْ فرصةً عَـنّتْ على عجـلٍ
من لم يُبادرْ إليـها ليس يَجنيـها
و لـنُـتْـرعِ الكأسَ أفراحاً مُشَعشِعةً
فإنَّ جذوتَـنا الأقدارُ تُـطفيـهـا
فليس للمرء مرفا يستجيرُ بهِ
وليس للنـفس شُطآنٌ فتَحميـهـا
تجري بنا لُججُ الأهـوال مُسرعـةً
نحو النهـاية لا شيءٌ سيَـثنـيها
***
فيا بحيرةُ يا مـا ليلـةٌ شهدتْ
حبّاً تقضّى سريعـاً في دياجيـها
ويا صخوراً على الشاطي تداعبها الـ
أمواجُ في جذلٍ والماءُ يُـرويهـا
وأنتِ يا غابةً سوداءَ مظلمـةً
تُجدّد العمرَ دوماً في مـراعيـها
لكم خلودٌ فلا دهـرٌ يُحطِّمُـكمْ
ولا الرياحُ أو النَّسْماتُ يُـفـنيـهـا
تذكَّروا اثنين عاشا في ربوعِكمُ
تساقيا الحب صَفـواً في أعـاليـهـا
*
ترجمة: د. بهجت عباس